يتجه أولو الأبصار إلى البحث عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخطر لهم على بال أن يوازنوا بينه وبين الفاتحين في عدد ما فتحوا من المدن أو الممالك، وإذا عدوا فتح مكة من مواقفه الشريفة، ومظاهر عظمته السامية، فلأنه عاقبة جهاد وصبر وثبات، ولأنه الفتح الذي أخذ به الإِسلام مهيباً به، وقطعت به الدعوة إلى الحق شوطاً واسعاً. والذي يفتح مدينة، فيملؤها إيماناً بعد شرك، وعدلاً بعد جور، وإصلاحًا بعد فساد، تكون عظمته في قلوب سراة الناس وحكمائهم فوق عظمة من يفتح المشرق أو المغرب، وهو يحمل في نفسه غطرسة، وفي يده إرهاقاً.
قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يعده من كبار الفلاسفة والمخترعين والمكتشفين، فقد كان محمد أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وما كان بمخترع ولا مكتشف".
الاختراع والاكتشاف مما يناله الناس بالذكاء والمثابرة على البحث، وإنما جاء محمد - صلوات الله عليه - بحكمة وقفت دونها أنظار الأذكياء، وتخبطت في البحث عنها عقول الفلاسفة، وهي هذه الحقائق والآداب والنظم التي هي قوام الحياة الراقية، وملاك السعادة الخالدة، هذه هي العلوم التي اختار الله لها محمداً، فألقاها على الناس دروساً زكية، وليس من زينتها سيرة غراء، ولا يضره بعد هذا العلم وهذه السيرة أن لا يخترع من الحديد غواصة، أو لا يستكشف أثراً كان تحت الأرض غائباً.
وإذا اعترف الناس للفيلسوف الكاشف عن شيء من غوامض الطبائع المادية بالعظمة، فإن عظمة من يكشف عن الحقائق العقلية والفضائل النفسية