الأخرى. ومن يتدبر القرآن والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب، يلف رأسه حياء من أن ينفي عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عظمة العلم تحت اسم الفلسفة، متكئًا على أنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. وقد خرج من بين يدي محمد - صلى الله عليه وسلم - رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.
وأما خلقه، فهذه السيرة المستفيضة في القرآن، وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه كان - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، فضلاً عن محاضرة.
وأما إخلاصه، فقد كان صافي السريرة، لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها. وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته: أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة. فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.
وأما صدق عزيمته، فقد قام - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى العدل ودين الحق، ويلقى من الطغاة والطغام أذى كثيراً، فيضرب عنه صفحًا أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة، لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله، وعلت حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.
وأما عمله، فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تبتغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر،