للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مآخذ الأحكام، وقد اشتمل الوحي بمكة على طائفة من الأحكام الواردة على هذا الوجه من الدلالة؛ كما يستنبط عدم مؤاخذة الرجل بجريرة قريب من نحو والد أو ولد من قوله تعالى فيما نزل بمكة: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤].

ونبهت الآيات المكية على قواعد يرجع إليها المجتهدون في تقرير أحكام كثير من الوقائع، كقاعدة: سد الذرائع المنبه لها بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨]، وقاعدة: العفو عما يقال أو يفعل تحت إكراه، المنبَّه لها بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦]، وقاعدة: الضرورات تبح المحظورات المنبَّه لها بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣].

ولو تمسكنا بكل آية قال فيها طائفة من أهل العلم: إنها نزلت بمكة، وخالفهم فيها آخرون، لجمعنا أحكاماً كثيرة، وأصولاً غير ما ذكرنا.

والأئمة الذين يرون أن شرع من قبلنا -الذي يقصه علينا القرآن، أو الحديث الصحيح- شرع لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، يجدون في قصص الأنبياء التي نزلت بمكة أحكاماً وأصولاً ترجع طائفة منها إلى المعاملات، وشؤون الاجتماع، وسياسة القضاء.

ويستبين من هذا: أن الوحي بمكة لم يمض عهده إلا وقد قطع شوطاً واسعاً فيما جاء له من التعبد والتشريع، فلا يحسن من المتحدث عن ذلك العهد أن يصرف النظر عما بناه الوحي فيه من أحكام وأصول، ولا ينبه له في حديثه عن سيرة الدعوة.