للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن يأتي لاجتهاد النبي - عليه الصلاة والسلام - في غير الشرعيات بمثالين، هما: تأبير النخل، واختيار مكان للنزول في الحرب، والمثالان يساقان على أنه - عليه الصلاة والسلام - قد يعرض لاجتهاده في غير الشرعيات خطأ، ولكن هذا الخطأ لا يستمر، بل ينقطع بتنبيهه له - عليه الصلاة والسلام -، أو بتنبهه له من نفسه.

أما واقعة تأبير النخل: فحديثها: أنه - عليه الصلاة والسلام - مر على قوم بالمدينة يلقحون (١) نخلًا، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يلقحون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، فأُخبروا بذلك، فتركوه، فخرجت شِيصًا (٢)، فذُكر ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به". وفي رواية أنه قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

فالحديث لم يأت فيه أنه نهاهم عن التأبير، وإنما قال: "ما أظن يغني ذلك شيئاً"، وفي رواية: "لعلكم لو لم تفعلوا، كان خيراً". والتعبير بالظن، أو بحرف الترجي المفيد للظن، صريح في أنه لم يكن بصدد تقرير حكم شرعي، وإنما هو إبداء رأي في أمر دنيوي، وعدم موافقة ظنه لما يعرفه أهل فن الفلاحة، لا يمس مقام نبوته الرفيع بشيء؛ إذ ليس من شرط صحة النبوة أو كمالها أن يكون صاحبها عارفًا بالشؤون الدنيوية البحتة، مصيبَ الظن في كل ما يتكلم فيه على وجه الظن.

وأما واقعة اختياره مكاناً للنزول في الحرب، فسيأتي بحثها حيث


(١) يجعلون الذكر في الأنثى، فتلقح.
(٢) الشيص: تمر لم يتم نضجه؛ لسوء تأبيره.