هو الذي وقع منه الاجتهاد في تفصيل الحكم أولاً وآخراً.
وللشارع في الأمر بالكسر على وجه العزيمة، ثم الترخيص في الغسل، حِكَم يبدو لنا منها: أن الرخصة مظهر من مظاهر الرحمة، والعزيمة تبقي في النفوس ذكرى اهتمام الشارع باجتناب تلك اللحوم التي أصبحت رجساً، وذلك ما يدعو إلى شدة الابتعاد منها، والمبالغة في غسل ما طبخت فيه من القدور.
وهاهنا حكمة عامة في كل رخضة جاءت عزيمة، هي: تأسيس قاعدة عظيمة من أصول التشريع هي: أن المشقة تجلب التيسير، فإن الفقهاء إنما انتزعوها وقرروها من أمثال هذا الحديث.
ويدلكم على أن الشارع يراعي حاجات القوم في دائرة الحكمة: أنه قد ينهى القوم عن الشيء، فيعرضون عليه حاجتهم إلى استعمال ما نهى عنه في بعض الأحوال، فيريهم أن ليس هذا موضع الرخصة، ويردهم إلى الحظر بإطلاق، ومن أمثلة هذا: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال:"لا، هو حرام".
وأما حديث نزوله المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه، فهو ما يروى من أنه - عليه الصلاة والسلام - لما نزل في غزوة بدر بأدنى مياه بدر، قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله، ليس لنا أن نتقدمه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:"لا، بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: ليس بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى منزل من القوم.
هذه القصة حكاها ابن إسحاق في "السيرة" على هذا الوجه، وحكاها