أن أقبل بهمة على طريق الصوفية، فطالع كتبهم؛ مثل:"قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المنثورة عن الجنيد، والشبلي، وأبي يزيد البسطامي، وظهر عنده أن لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف النفس عن الهوى، ثم واظب على العزلة والخلوة.
فلا عجب أن يبلغ كتاب "الإحياء" في الغوص على أسرار الشريعة، والبحث عن دقائق علم الأخلاق وأحوال النفس، غاية بعيدة، فكتاب "الإحياء" من صنع عقل نشأ في قوة، ورسخ في علوم الشريعة، وخاض في العلوم العقلية، فوقف على كبيرها وصغيرها، وفرق بين سليمها ومعيبها، وخلص بعد هذا من كدور الهوى، وظلمات الحرص على عرض الدنيا.
وقد كان الناقدون لكتاب "الإحياء" يعيبونه بما احتواه من بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، وربما اعتذروا عن مؤلفه بأنه لم يكن طويل الباع في علم الحديث، بل نقلوا عنه أنه كان يقول عن نفسه:"أنا مزجي البضاعة في علم الحديث".
وقد قام بإصلاح هذا النقص الحافظ العراقي، زين الدين عبد الرحيم، فألف في تخريج أحاديثه كتاباً في مجلدين، ثم اختصره في مجلد سماه "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار".
وإذا وجد العلماء في كتاب "الإحياء" مآخذ معدودة، فإنه من صنع بشر غير معصوم من الزلل، وكفى كتاب "الإحياء" فضلاً وسموَّ منزلة أن تكون درر فوائده فوق ما يتناوله العد، وأن يظفر منه طلاب العلم وعشاق الفضيلة بما لا يظفرون به من كتاب غيره، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة: ٢٦٩].