ينفق الفقيد في وجوه البر بأريحية وبسط راحة، وإذا لم يظهر من إحسانه إلا ما يهبه لبعض الجمعيات الخيرية أو الأدبية، فإن المتواري منها؛ كالذي يسعف به ذوي الحاجات من الأسر والأفراد شيء كثير، ومن شواهد إخلاصه فيما ينفق: أنه كان يهب لبعض الجمعيات الإصلاحية في المرة الواحدة نحو الخمسين ديناراً، أو المئة دينار، وإذا جاءه من تسلم منه المبلغ بإيصال من الجمعية، أبى أن يقبله، وقال له: مزقه إن شئت، ولا وجه لكتابته، فضلاً عن الاحتفاظ به.
في الفقيد صبر جميل، وما هو على الحياة بحريص، كنت أزوره وهو على فراش مرَض خطير، فإذا تجاوزت باب الغرفة مقبلاً، هبّ على وجهه ابتسام يعقبه تحية، فمحادثته خالية من شكوى المرض، أو الضجر من مصابه.
يرتاح الفقيد للطرف الأدبية، ويوردها في المجلس حسب اقتضاء المقام، ولكنني لم أره يداعب في محادثته قريباً أو صديقاً، فضلاً عمن يلاقونه في أوقات نادرة، ونظره الصائب في هذه الحياة، ورسوخ طبيعة الجد في نفسه قد جعلاه لا يألف إلا حديثاً في علم أو أدب، أو شأن من شؤون الاجتماع، وهما اللذان جعلاه لا يشغل شيئاً من وقته في لهو، ولم أر قط في منزله نرداً، أو شطرنجاً، أو نحوهما من الملاهي التي تأكل عمر المغرم بها أكل النار للهشيم.
يتحدث الفقيد في صوت منخفض هادئ، وهو يملك أن يداري، فيبسط وجهاً رحباً، ولساناً بالتحية أو الحديث رطباً، وليس في استطاعته أن يداهن، فيقول للمسيء: أحسنت، أو للمخطئ: أصبت، وإذا منعه حياؤه