وفي وضع الشرائع شدة على الطباع، حيث كانت تحصر أعمال الناس في دائرة، ولا تبقيها أمام الإرادات الشخصية تصرفها كيف شاءت، لا سيما إذا صرفت خطابها إلى أمة لا تألف النظام؛ كحال العرب قبل طلوع الإِسلام، فيوشك أن يتملصوا منها, ولا يعدوا أعناقهم لأطواق تكاليفها، فمن حسن تدبير شارعها، وحكمته في تقريرها: أن ياخذهم بها على مهل، وترشح لهم بها أوامره قضية بعد قضية مترقيًا، مما يلائم عوائدهم إلى ما يقاربها حتى تستقر لهم قوانينها كاملة. وعلى مبدأ هذه السياسة جرى التشريع في الإِسلام.
* الشرائع سماوية ووضعية:
فالسماوية: ما نزل بها الوحي على رسول، والوضعية: ما يضعها البشر من تلقاء عقولهم.
وتمتاز السماوية بأن معاملات الناس على طرائقها، وتصرفهم على مقتضى حدودها، من قبيل العمل برضا واجب الوجود واختياره؛ بخلاف القوانين الوضعية؛ فإن الداخل تحت سلطتها إنما يكون سائراً على حسب إرادة بشر يماثله، ولهذا لا يمكنها أن تأخذ من احترامات القلوب الموضع الذي تأخذه الشريعة التي هي تنزيل من حكيم حميد.
وتمتاز السماوية بأنها تعزّز قوانينها بسلطة غيبية، فتهدد المخالف بعقوبة آجلة، أو بلاء ينزل به القدر في هذه العاجلة، وتبشر الطائع بنعيم خالد، أو عيش طيب في هذه الحياة، ولا يختص ذلك الانذار والبشارة بما هو حق لله خالصاً كالعبادات، بل ورد أيضاً في الأحكام الموضوعة لمصالح الخلق في الدنيا.