الجاني بأقصى عقوبة وأشدها، ثم يشاهد جناية قاسية يبتلى بها من يباغضه، فلا يتألم لقبح موقعها, ولا يرتاح لمجازاتها, ولو بأقل تعزير، فمقرر القانون لا يعتبر بهذه اللذائذ الخاصة والآلام، وإنما يقرره بمقدار الارتياح والألم الذي يشعر به جمهور الأمة وعقلاؤها.
فبهذا يتحقق أن الشرع الذي يسنّه العالم بشعور الأمة، المطّلعُ على أحوال ضمائرها، يكون أحكم نظاماً، وأحفظ للمصالح، مما يضعه الذي لا يعرف سوى ظواهرها, ولم يحط خبرًا بعاداتها وأذواقها.
ومن خصائص الشريعة المحكمة: أن تكون أحكامها قائمة على أسباب حقيقية، وقد اختل نسيج بعض القوانين الوضعية حيث ذهب مقررُها إلى إقامتها على علل خيالية، ومن أمثلة هذا الصنيع: أن بعض المتشرعين وضعوا قانونًا لمصادرة أموال بعض المجرمين، وعدم إبقائها لورثته، وعللّوه بأنه يعرض للدم فساد في بعض الأوقات، فيقتضي قطع الرحم بين الأقارب. ولقد اشتبه على هذا المعلّل مقام الشرع بمقام الشعر؛ فإن مثل هذه العلّة تحتملها النفس إذا تبرجت في حلل من الشعر، وتنبو عن سماعها إذا طرحت على بساط العلم، ومثل هذا: أنك تقرأ في تأليف بعض النحويين تعليلهم لامتناع دخول (هل) على اسم إذا كان في الجملة فعل؛ بأنّ (هل) إذا رأت الفعل في حيّزها، تذكرت عهوده السالفة، وحنّت إلى وصاله، فلم ترض إلا بمعانقته، فتحسّ بسخافة هذا التعليل وبرودته، ولكنك تتناول بعض مؤلفات في الأدب، فيقع نظرك على قول الشاعر: