المجتهد تقصر العبارة عن بيانه؛ فإن الباني للقضية على مجرد استحسانه وميله، بمنزلة من يدعو الناس ليوافقوا رأيه على شرط أن لا يجاذبوه طرف البحث والمناظرة، كما أسقطوا المرائي المنامية، وما يجول في النفس من الحديث المعبر عنه بالإلهام.
ينحصر ما يتمسك به المستدل للحكم في نوعين:
أحدهما: ما يدل بنفسه، وهو: القرآن، والحديث، والقياس.
ثانيهما: ما يتضمن الدليل ويستلزمه، وهو الإجماع، وإنما كان متضمناً للدليل؛ لأنه لا ينعقد على حكم حادثة إلا إذا قام له دليل ثابت، ومستند صحيح.
فالقرآن: كلام الله المنزل على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، المنقول إلينا ما بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا. وقد أحصوا آيات الأحكام منه، فبلغت خمسمئة آية، وأفردها بعض العلماء بالنظر، وخصّها بالتفسير، كما صنع أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، وعبد المنعم بن الفرس.
والحديث: قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وفعله، وتقريره، وهو مستقل بتشريع الأحكام، ومعتبر بمنزلة القرآن في العمل بتحليله وتحريمه؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: ٧]. وما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن حتى لا يقبل منها إلا ما كان بياناً له، فقال يحيى بن معين وغيره من الحفّاظ: إن هذا مما وضعته الزنادقة، وأما قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل: ٨٩]، فيفهم على معنى أنه أرشد إلى جميع ما يحتاج إليه في تحصيل أمر السعادة، إم بنص، أو مقالة عامة، أو الإحالة على من