الصنف الثاني: يجد في صدره الحرج من مشافهته بالوعظ، ولا يقلع عما نكب عليه من الباطل، ولكنه يحترم مكان العالم، فلا يسومه بمهانة، ومثل هذا ما حكي صاحب "نفح الطيب": أن أبا الوليد الباجي لما قدم من المشرق إلى الأندلس، وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح، وهم يجلُّونه في الظاهر، ويسثقلونه في الباطن، ويستبردون نزعته، حتى خاب فيهم أمله، ولم يقترن سعيه بنجاح.
طلع عز الدين بن عبد السلام إلى السلطان أيوب نجم الدين مرة، وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
وأكثر ما تؤثر الموعظة في قلوب الأمراء إذا برزت في صورة التعريض، أو ألقيت في مظهر الأقوال العامة، ومن مثل هذا: أن الشيخ أبا بكر بن سيد الناس قدم على حاضرة تونس، فاستدعاه المنتصر بالله، فلما دخل عليه، أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: ١٥٩]. فاستحسن المنتصر قراءته وقصده، وكان ذلك سبباً في حظوته، ورفعة منزلته عنده.