للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في الأرض جميعاً.

كانت الفوضى بين الأمة العربية سائدة، والأمن في بلادهم قبل الإسلام مختلًا، إذا استشاط أشدّاؤها غيظاً، ونفخت في صدورهم البغضاء والشحناء، لا يطفئونها إلا بدم مهراق، ولا يهاب الرجل منهم أن يقذف آخر بمسبَّه مسمومة السهام، أو يغمد سيفه - مثلاً - في عنق رجل عظيم، اعتدى على ناقة نزيل عنده، أو حليف له احتمى بجواره، الفرد يفرغ جهده في الفرد، والجماعة تضع كلاكلها على الجماعة، ويعدّون ذلك كله أثر نخوة أصابوا به المحزَّ من معنى الحرية. أرأيت كيف قال شاعرهم يفتخر بما يأخذه من حمية الجاهلية؟:

إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالمٌ ... على القوم لم أنصر أخي حين يُظلم

أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فغير مراد منه المعنى الذي قصده الشاعر من الاعتصاب مطلقاً، حقاً أو باطلًا، ولقد كشف - عليه الصلاة والسلام - عن حقيقة مراده بنفسه، حين قالوا له: هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ فقال: "تأخذ فوق يده"، والمعنى: تحجزه، وتقيم صدره عن الظلم؛ لأنك إذا أبقيته مكباً على ظلمه واعتدائه، ولم تقبض على يده، أفضى به الأمر إلى أن يعاقب بمثل ما اعتدى، فإذا منعته من الظلم، وثنيت عِطفه عن البغي، فقد استنقذته من عقوبة القصاص، ولا جرم أن وقايته من العقويات نوع من النصر والإعانة. ثم إن هذه الجملة: "انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا" أول من تكلم بها جندب بن العنبر، وأراد بها: ما اعتادوه من الحمية حمية الجاهلية، فأقرها - عليه الصلاة والسلام -، ولكن نقلها عن موردها الأول، وحملها على معنى يطابق بها الحكمة الصحيحة، ويحشرها