وقد امتد بالعرب في الجاهلية حب الاستقلال الشخصي، والتجرد عن كل ما فيه ضغط وحجر، إلى إبايتهم وتعاصيهم عن الدخول تحت نظام ملكي يرد شكيمتهم، ويكبح من جماحهم، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقرَّ الذلَّ فينا
ومن أجل ذلك كانوا لا يألفون الحواضر، ويفرُّون من الإقامة داخلها فرارَ الصحيح من المجذوم، ويوجسون في أنفسهم أنها ذريعة للمسكنة، وسبيل للرغم من أنف العزة والعظمة، وجرى على هذا أبو العلاء المعري حين قال:
الموقدون بنجدٍ نار بادية ... لا يحضرون وفَقْدُ العزِّ في الحضرِ
وقال ابن الرومي:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسَّلَمِ
والضال والسلم شجرتان بالبادية، وكنَّى بذلك عن إقامتهم بالبادية، وعدم نزولهم عنها إلى السكن بالحاضرة؛ لينتقل من هذا إلى العلم بأنهم لم ينسلخوا من ثوب عزهم، ويدخلوا تحت سيطرة الأحكام الملكية.
وما مثل العرب في حال عتوِّهم أزمنة الجاهلية إلا كمثل شجر أضغاث نشأ بمفازة مجهولة من الأرض، فاستغلظ، والتوى قويه على ضعيفه، يقطعه من أطرافه، ويقتل ما فيه من القوى النامية، ولولا الحكمة البالغة، والأسلوب اللطيف الذي ساسهم به الإسلام إلى شريعته، مع ما أودعه الله في طباعهم من سلامة الذوق ورقة الشعور، ما كادوا يدخلون في دينه أفواجاً، ويتقلَّدون