{وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: ٨]. وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}[النحل: ١٤]. وقال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص: ٧٧]. فذكرُ هذه الأشياء في معرض الامتنان والإذنِ في الانتفاع بها، دليلٌ واضح على دخولها في قسم المباحات، لا حرج في تناولها، ولا يعد الإعراض عنها طاعة يرجى ثوابها كما تقتضيه حقيقة الإباحة.
لما فتح أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - أنطاكية، عزم على الرحيل منها، وعدم الإقامة بعسكره فيها؛ مخافة أن يألفوا جودة هوائها، ويأنسوا بطيب نسيمها، فيخلدوا إلى الراحة والدعة، وأرسل بهذه النية إلى الخليفة عمر ابن الخطاب، فكان من جواب عمر:"أما قولك: إنك لم تقم بأنطاكية لطيب هوائها، فالله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات.
فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون: ٥١]. وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، أو تدعهم يرغدون في مطعمهم ... إلخ".
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا، فلا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميتَ الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق، وإنما يقصد منها-فيما نفهمه- حكم أخرى؛ كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومن قصرت أيديهم عن تناولها؛ كي لا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً، ومنها: تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشره والطمع؛ كيلا يخرجا بها عن قصد السبيل،