فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس، يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا، وقد بيّن لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذ الحياة، ولم يصح فؤاده عن اللهو بزخرفها، ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده، فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة، فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة، لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة.
ولما كان السرف في صرف الأموال، وبسط الراحة بإنفاقها، يفضي إلى نفاذها، والتشوف إلى ما في أيدي الناس، أو يؤدي-في الأقل- إلى قلتها، وعيش صاحبها كاسفاً على ما فاته من السعة ورفاهية الحال، أمر الشارع بالاقتصاد في الاستمتاع بها، ولم يرسم لذلك حداً فاصلاً، بل أوكله إلى اجتهاد المكلف، وما يعلم من وسعه، فقال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}[الطلاق: ٧]. وقال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: ٣١]. وقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء: ٢٩]. وقال:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان: ٦٧]. وقال: {إِنَّ