وقد تتقوى هذه الداعية، فتبلغ به إلى أن يخاطر بحياته، وينصب جنبه لسهام الرزايا عندما يرجم بشتيمة تلوث وجه كرامته، ويتجهم بها منظر حياته، قال أبو الطيب المتنبي:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
ولا يتفاضل الناس في الشرف والمجادة، أو تتسفل هممهم إلى هاوية الرذالة، إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عقدة هذه الإرادة قوة وانحلالاً، فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيواناً مهملاً، وأعظم مثال يكشف لك عن فنائها، وسكون نبضها، رجل يأتي الفاحشة، ويعانق الرذيلة غير مستور عن أعين الشاهدين، ويرى أثرها بمثابة وسام افتخار في صدر رجل من مشاهير الأمة، فحال هذا الرجل مستثناة من عموم النصوص الواردة في حفظ عرض الإنسان في غيبته؛ إذ يعد اختياره لجلسته بقارعة الطريق، وهتكه لستر كرامته بنواجذه دليلاً واضحاً على عدم تحرجه ومبالاته بذلك، فينزل منزلة الإذن الصريح لغيره أن ينشر عوراته التي خرقها هو بنفسه علانية.
ونستفيد من هذا: أنه لا يحق للطاعن أن يتخطى المعائب التي يجهر بها صاحبها إلى النقائص التي يحرزها بغطاء الستر والكتمان؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}[الحجرات: ١١]. وقوله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: ١٢]. وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه، فإذا قبح من العاقل أكل لحوم