وأخذوا في نقد ما يروى من الأحاديث حتى يتميز الخبيث من الطيب، والصحيح من غير الصحيح، فاحتاجوا إلى التعرض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سوءاً، بادروا إلى الجهر به، وتعيين اسمه؛ ليحذره الناس، ولا يتلقون روايته بالقبول، وهكذا الحكم في كل طائفة تحملت في عهدتهم أمراً يشترط فيه الثقة والأمانة؛ كالقضاء والفتوى، ولهذا لا نرى أهل الورع من العلماء يهملون في كتب التراجم ذكر من تصدروا للأحكام أو الفتوى، والتصريح بما يقع في سيرتهم، أو ينطوي في سريرتهم من الأحوال المانعة من الاقتداء بهم، والأخذ بمذاهبهم، وربما استطردوا بيانها في أثناء تحاريرهم العلمية.
ونضرب لك في صحة هذا مثلاً: يقول المالكية: لا حكم ولا إفتاء إلا بما جرى به العمل، ويقررون في شروطه: أن يكون الذي أجرى العمل أهلاً للاقتداء به قولاً وعملاً؛ إذ كثيراً ما هزلت المناصب حتى سامها كل مفلس من العلم، فقير من التقوى، ولولا ما تسطره أقلام الكرام الكاتبين، وتنطق به الثقات رواية، ما اهتدينا إلى معرفة من يجب الاقتداء بأحكامه وفتاويه، ومن يجب الإعراض عن الاقتداء به صفحاً.
الجناية على الأعراض غير منضبطة، بل تختلف آحادها اختلافاً كثيراً، فربَّ صفة ينعت بها رجل، فلا تحط من شأنه، وتعلق على آخر، فتنقلب سباباً، ومن أجل اختلافها في التأثير على حال المجني عليهم، لم تضع الإسلامية بإزائها عقوبة محدودة، وفوضت تعيينها وتقديرها إلى اجتهاد الحاكم، فإذا وقعت الواقعة، تلقاها بمزيد الضبط، ثم اجتهد في عقاب الجاني رأيه، ما عدا حد القذف بالزنا؛ فقد قررت له جزاء مفروضاً هو الجلد ثمانين سوطاً. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ