فضيلة الحرية فتيلاً، وما انفلت وكاؤها (١)، وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد.
ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزيز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى، لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: مالي وللشعراء؟ وقال مرة: إني عن الشعر لفي شغل. انتجعه جرير بأبيات، فأذن له بإنشادها. وقال له: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً، وعندما استوفاها، واصله بشيء من حُرِّ ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض، ثم يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزُّهُ ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
ومن مآثر الاستعباد: ما تتجشأ به اللها، وتسيل به الأقلام من صديد الكلمات التي يفتضح لك من طلاوتها أنها صدرت من دواخل قلب استشعر ذلة، وتدثر صغاراً، نحو:"مقبل أعتابكم"، "المتشرف بخدمتكم"، "عبد نعمتكم"، ولا أخال أحداً يصغي إلى قول أحد كبراء الشعراء:
وما أنا إلا عبد نعمتك التي ... نسبت إليها دون أهلي ومعشري
إلا ويمثل في مرآة فكره شخصاً ضئيلاً، يحمل في صدره قلباً يوشك أن ينوء بما فيه من الطمع والمسكنة.
ومن سوء عاقبة الخضوع في المقال: أن يوسم الرجل بلقب وضيع ينحته له الناس من بعض أقوال له أفرغ فيها كثبة من التذلل وبذل الهمة؛ كما سموا رجلاً باسم:"عائد الكلب"؛ لقوله:
(١) الوكاء: ما يشد به رأس القربة - "المعجم المدرسي - لزين العابدين بن الحسين".