خط مستقيم، فإذا اعترضته عقبة كؤود، وقف في حيرة، أو رجع على عقبه يائساً، والداهية يسير في خط منحن، أو منكسر، ولا يبالي بطول المسافة في جانب الثقة بإدراك الغاية المطلوبة.
يقوم الدهاء على فطرة الذكاء التي هي سرعة تصور المعاني الغامضة، وسهولة نفوذ الفكر إلى المقاصد الخفية، والإفراط فيه - الذي يعد عيباً في صاحب السياسة - إنما هو اختطاف صورة الأمر أو النتيجة من غير تثبيت في مأخذها، أو إحاطة بكنهها؛ إذ الشأن فيمن تضرب أشعة فكره في المعاني البعيدة أول ما يلتفت إليها لا يطيل البحث عن أسرارها، أو يستوفي النظر إلى آثارها.
فمن لم ينظر في الشؤون العامة بفكر ثاقب، ضاع من بين يديه كثير من المصالح، ووقع في شراك الخداع والمخاتلة، وكم من أمة قضى عليها بَلَهُ زعمائها أن تعيش في هاوية الذل، ونكدِ الحياة. وإنما استقام ظهر الخلافة لعهد عمر بن الخطاب؛ لأنه كان - مع سلامة ضميره، وصفاء سريرته - نافذ البصيرة في السياسة، بعيد النظر في عواقبها. قال المغيرة بن شعبة: كان عمر أفضل من أن يَخدع، وأعقل من أن يُخدع.
السياسة فنون شتى، والبراعة في كل فن تكون على حسب الأخذ بمبادئه، والدربة في مسالكه، فهذا خبير بسياسة الحرب، وبصيرته في السياسة المدنية عشواء، وآخر يدير القضايا، ويجري النظامات بين الأمة في أحكم نسق، فإذا خرجت به ليخوض في صلة أمة بأخرى، ضاقت عليه مسالك الرأي، وتلجلج لسانه في لُكنة، وربما جنح إلى السلم، والحربُ أشرف عاقبة، أو أذن بحرب، والصلحُ أقرب وسيلة إلى سعادة الأمة.