فلا بد للدهاء في فن سياسي من الوقوف على شيء من سننه، إما بتقلب الإنسان في الوقائع بنفسه، ومشاهدته لها عن رؤية عين، وهي التجارب الملوّح إليها بقول أبي تمام:
من لم يُقَد ويطير في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميسا
أو بتلقيها على طريق النقل؛ كدراسة فن التاريخ، أو الكتب المؤلفة في ذلك الفن من السياسة خاصة.
ولا يملك مزية الدهاء في السياسة، إلا من كان في استطاعته كتم تأثراته النفسية من غضب وسرور، ومودة وبغضاء، ولهذا يقول الأدباء: إنّ أحكم بيت قالته العرب:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرِّه يتأوه
فأناة الرئيس ورصانته هي المنبع الذي تسقى منه الأمة حرية الفكر، والسلَّم الذي تعرج منه إلى الأفق الأعلى من الأمن والسعادة.
تسمح الحكومات الحرة للكتّاب والخطباء أن يكشفوا عما في ضمائرهم، ويجهروا بآرائهم، وتسير معهم على مبدأ أن الناس أحرار في آرائهم وعواطفهم، فلا يسألون عنها، أو يؤاخذون بها متى كانت مباينة لمقاصد الرئيس، أو معارضة لمذهبه في السياسة، إلا إذا وضعوا أيديهم في إجرائها، واندفعوا إلى العمل على نفاذها.
تعد الحرية البالغة هذا الحد في حسنات بعض الحكومات الحاضرة، وقد أدار عليها أمراء الإسلام رحى سياستهم منذ ألف وثلاث مئة سنة، فهذا معاوية بن أبي سفيان يقول: والله! لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه، فقد جعلت له ذلك دبر أذني،