مراعاة ما في الخارج، وما يلحقها من الأحوال، ويتبعها من الآثار.
وتحقيق هذا: أن العلم في نفسه لا يعوق صاحبه أن يدرك الغاية القصوى في السياسة، وإنما العلة التي تقعد بالعالم عن البراعة في تدبير الشؤون العامة إنما هي انكبابه وعكوفه على القواعد، وما يتفرع عنها من الأحكام، دون أن يضيف إليها الاطلاع على أحوال أهل العصر، ويفحص عما تقتضيه مصالحهم، وتستدعيه حاجتهم، ويغوص على الوقائع، فيتفقه في نشأتها، وما تصير إليه عاقبتها.
فما قاله ابن خلدون إنما ينطبق على حال العلماء الذين أنفقوا أوقاتهم في القضايا النظرية، ولم يضربوا بسهم في معرفة أسباب العمران، وطبائع الاجتماع، وهذه الحالة هي الغالبة على أمرهم في عصر ابن خلدون، وما تقدمه بزمن طويل، ولا سيما بعد أن وقفوا دون مرتبة الاجتهاد، وتهاونوا بالشطر الأهم من وظيفتهم، وهو الدعوة إلى الإصلاح أينما كانوا.
وأما الذين يقدرون وظيفتهم حق قدرها، ويقومون بما قلدهم الله من مراقبة سير الأمة، وإرشادها إلى وسائل الفلاح عن فكرة سليمة، وألمعية مهذبة، فإنهم يسبقون - بلا ريب - إلى الغاية السامية في السياسة القيمة، ولا يكون العلم عثرة تهوي بهم في البلَه والجهل بتدبير شؤون الاجتماع؛ كما يدّعي الذين يسمعون، أو يسردون مقالة ابن خلدون على غير تدبر وروية.
وكان الوزير التونسي خير الدين باشا يعقد مجالس من علماء جامع الزيتونة، ويلقي على وجه الشورى ما يهمه من المسائل العامة، فيتناوبونها بالبحث والنظر، حتى إذا نطق أحدهم برأي يصيب به المفصل من القضية، اهتز ذلك الوزير ارتياحاً، وضرب يمناه على يسراه قائلاً: لا تتقدم أمة إلا بعلمائها.