وقد قاومت الشريعة الإسلامية هاتين الطبيعتين، وجاهدت فيهما حق جهادها، حتى أعدت لسياسة العالم أساتذة مثل: عمر بن الخطاب الذي كان لا يراعي في إقامة الحق وكبحِ الباطل أشدَّ الناس به صلة، وأمسّهم به رحماً، ومثل معاوية بن أبي سفيان؛ فإنه كان يُرمى بالمطاعن، ويرشق بسهام الإنكار، فيسرها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين.
ومن دهاء عمر بن عبد العزيز: أنه كان يرى في كثير من الأمور مصالح للرعية، ولكن كان يسلك في إجرائها طريقة التمهل والتدريج؛ حذر أن يثقل عليهم عبؤها، فيطرحوها عن ظهورهم، ويقعوا في عاقبة سيئة. قال له ابنه عبد الملك:"مالك لا تنفذ الأمور؟ "، فقال:"لا تعجل يا بني؛ فإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه، وتكون فتنة".
فلا يخرج السياسي عن مجرى الاستقامة حيث يرى في سيرة الأمة عوجاً يتعذر عليه تقويمه بالقوة، فيحجم عن مكافحته، ولكن يبذل حكمته في علاج ذلك المبدأ السقيم، حتى يأخذ صحته، ولو بعد أمد طويل.
وقد بدأت السياسة في عهد معاوية لا تبالي أن تمر إلى الحق ولو على جسر من الباطل؛ كما قال زياد في بعض خطبه: قد علمنا أنا لا نصل إلى الحق إلا أن نخوض في الباطل خوضاً.
ويقول ابن خلدون:"إن العلماء من بين البشر أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها".
وذكر في توجيه هذه المقالة: أنهم معتادون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية، والأنظار الفكرية، لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى