للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سارت فيها باستقامة، فعظم ملكها، وقوي سلطانها.

ويوافق ما قاله ابن خلدون من أن العربي بعد مطلع الإسلام غير العربي في عصر الجاهلية: أن سعد بن أبي وقاص أرسل نفراً منهم المغيرة بن زرارة إلى (يزدجرد)، فدارت بينه وبينهم محاورة أفصح لهم في آخرها عن تعجبه من ظهورهم في هذا المظهر العظيم، بعد أن كانوا بمكانة من الجهل، فقال له المغيرة: إن ما وصف به العرب من الجهل هو حق، إلا أنه قد كان ذلك قبل الإسلام. وبعد أن انصرفوا قال لقائده رستم: "ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم".

ركبت مرة القطار من "برلين" إلى إحدى قراها القريبة منها، وكان في رفقتي أستاذان من المستشرقين، فأخذا يتحاوران باللسان الألماني، ولم أكن أفقه من هذا اللسان يومئذ شيئاً، ثم أقبل علىّ أحدهم، وقال لي: أليس هكذا يقول ابن خلدون: إن العرب لا يعرفون السياسة؟ فقلت له: إنما يصف ابن خلدون العرب في حال جاهليتهم، وقبل أن يهتدوا بهدي الإسلام، ويستنيروا بحكمته، فانقطع، وعاد إلى محاورة صاحبه.

ومن نظر إلى العربي في حال جاهليته، رآه مطبوعاً على خصلتين، يطوّح به الغلو فيهما إلى ما ليس وراءه غاية:

إحداهما: اندفاعه للانتقام ممن هضم له حقاً، أو مسّ جانبه بأذى، وحسن السياسة يقتضي التأني، والإغضاء عن كثير من الهفوات.

ثانيتهما: إطلاقه لأيدي شيعته وعشيرته، وغض الطرف عنهم إذا أخذهم الاعتزاز بجاهه، واضطهدوا حق ضعيف لا ينتمي إليه.

والسياسة تنافي الإفراط في معاضدة الأشياع والأحلاف، ولا تستقيم