ومن يطلق يده بالإنفاق في الزينة وما تلذه نفسه، وكان يتجاوز بالإنفاق عادة أمثاله، يقلّ نصيبه من البذل في وجوه الخير، ذلك أن القلوب المبتلاة بحب الزينة واللذات الجسيمة، لا تقف فيها عند حد، وكلما أدركت منزلة، تشوقت إلى ما فوقها، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري:"وإن هذا المال حلوة، من أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقه، كان الذي يأكل ولا يشبع".
وهذه القلوب المريضة تتسابق إلى الشهوات، وتتباهى بما تناله منها؛ كما تتباهى النفوس الزكية بما تحظى به من خير وكمال، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام البخاري:"فو الله! ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا؛ كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم".
ومن تملكه حب الزينة والملاذ الجسمية، لم يبال أن يأتيها، ولو من طريق يحط من كرامته، ويذهب ببعض عزّته، فالحرص على زهرة الحياة يبسط يد القاضي لتناول الرشوة، ويجعل في أذنه وقراً، فلا يسمع صوت الحق، وهو ينذره المنقلب الذي ينقلب إليه آكلو أموال الناس بالباطل، والحاكمون بغير ما أنزل الله.
والحرص على زهرة الحياة قد يلجم العالم عن قول الحق، أو يطلق لسانه بغير الحق، يخاف أن ينقطع عن رفاهية أصبح يتقلب فيها، أو تفوته رفاهية بات يترقبها، قال ابن خزيمة: كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد، فحدّث عن أبيه بحديث غلط في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده، قال لي فلان القاضي: قد كنا نعرف أن هذا الحديث خطأ منذ عشرين سنة،