ففي هاتين الآيتين نهي عن الإفراط في ترك الزينة والطيب من الرزق، لتركها زهداً في الدنيا، وفيهما بيان أن ذلك الترك في نفسه لا يقرب من الله قيد أنملة، فللمؤمن أن يأخذ من الزينة، ويتناول من الطيبات ما شاء، وقوله تعالى:{وَلَا تَعْتَدُوا}[المائدة: ٨٧] إما أن يكون نهياً عن تعدي حدود ما أحل لهم، أو نهياً عن الإسراف في الحلال، وفي الإسراف مفسدة أي مفسدة، قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومخيلة.
وكان أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه - شديد الزهد، حريصاً على أن يسير الناس سيرة القانع بالكفاف من القوت، فأخذ ينكر عليهم وهو بالشام الاتساعَ في المراكب والملابس، ويدعوهم إلى صرف ما زاد عن حاجتهم إلى وجوه البر، فوقع بينه وبين معاوية - رضي الله عنه - كلام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، وجعل يدعوهم بتلك الدعوة في شدة، فقال له عثمان - رضي الله عنه -: لو اعتزلت! قال أبو بكر بن العربي: "معناه - أي: قول عثمان -: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً، وللعزلة مثلها، ومن كان كأبي ذر، فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربدة زاهداً فاضلاً، وترك جلة فضلاء، وكلٌّ على خير وبركة وفضل".
وهذا الحسن البصري، وهو من أفضل التابعين، ينكر على من يعد من الورع ترك بعض الأطعمة اللذيذة، دُعي الحسن مرة، ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمّن والفالوذج