لذلك كان الغالب على المترفين المسرفين قبض أيديهم حيث يبسط غيرهم يده إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة من مجاملات الإخوان، ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئة أخرى، هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة.
وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة، والدعوة إلى الحق، ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم، يغلب عليه الحرص على هذا الحال، فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم؛ كسكوته عن كلمة حق بين يدي ذي جاه أو سلطان يكره أن يسمع صوت الحق، ومن ترك أن يواجه بكلمة حق ذا جاه أو سلطان يخشى أن يحول بينه وبين رفاهيته، سهل عليه أن يترك الدعوة إلى الحق جملة.
وللإسراف في الترف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي بها المقتصدون فيما يأكلون وما يشربون، وقد أورد ابن خلدون في "مقدمته" حديثاً عن الأمراض، ونبّه على أنها تكثر في أهل الحضر والأمصار؛ لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، ثم نبه على أن تلك الأمراض تقل في أهل البادية؛ لقلة مأكولاتهم، وبساطة أغذيتهم.
وإذا كانت الصحة من متممات البطولة، كان حقاً على الأفراد والجماعات أن يأخذوا في مآكلهم ومشاربهم بحكمة الاقتصاد، فلا فضل للأمة في أن تضع على موائدها ألواناً من الأطعمة مختلفة، وإنما الفضل في أن يكون لها رجال سليمة أبدانهم، قوية عزائمهم، مضيئة بصائرهم.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم، ذلك أن النفس المحفوفة