بالرفاهية من كل جانب، يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذَّة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية، ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرَك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذا شأن الإسراف في الترف.
ولكن التاريخ قد حدثنا عن أفراد نشؤوا في بيوت توفرت فيها وسائل الرفاهية، ولم يكونوا بحال المترفين المستضعفين، بل نشؤوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يسمى لذَّات حسيَّة، وإن كانت طوع أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم، أو على ضرب آخر من ضروب السيادة، فأدركوا فيه غاية قصوى؛ مثل: عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، فقد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولى الخلافة، استطاع بما وهبه الله من الحكمة والروية أن لا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزناً، فعاش عيشة الكفاف، وخزائنُ الأرض طوع يمينه، وتوفي وقد أبقى سيرة غرًاء، وذكراً أطيب من ريح المسك. ومثل أبي محمد بن حزم الذي نشأ في بيت وزارة بالأندلس، وتولى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده، وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع.
ونحن إذا حذرنا من الإسراف في الترف، لا نريد من الناس أن يكونوا على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذ، فقد قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف: ٣٢]، وإنما نريد: الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الحرص على الزينة واللذيذ من العيش، حتى لا تجعلها مظهر الفخار والمباهاة: