يتساوى الناس في التمتع بحقوقهم، ويتساوون فيما تقتضيه المصلحة العامة من أعمال، أو أداء أموال، فإذا اقتضى الحال محاربة عدو - مثلاً -، كان مناط الدعوة إليها من فيهم الكفاية لها، وإذا دعا الحال إلى الإنفاق في الذود عن الحوزة، أو إقامة منشآت عامة، كان مناط الدعوة إليه ذوي اليسار، فلا يعفى من الحرب أو الإنفاق وجيه لوجاهته، أو صديق لصداقته، أو قريب لقرابته.
ونحن نعلم أن عبد الله وعبيد الله ابني الخليفة عمر بن الخطاب كانا يخرجان في الجيوش التي توجه إلى الجهاد في عهد عمر كجنديين، لا يختلفان عن سائر الجنود في شيء.
ولا يظفر القابضون على زمام الأمور من شعوبهم بمثل حسن الطاعة، ولا طريق إلى حسن طاعة الشعوب إلا المساواة بينهم في الحقوق والواجبات.
ومن شواهد هذا: أن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - خصَّه أبوه بشير بهبة، وجاء إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على ذلك، فقال له:"أكُلُّ ولدِك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا، قال:"أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ "، قال: نعم، قال:"اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم في العطية". والشعوب للقائمين على تدبير شؤونهم بمنزلة الأبناء للآباء، فمن أحب أن يكونوا له في حسن الطاعة سواء، فليسلك بسياستهم طريق المساواة في الحقوق والواجبات.
هذه المساواة من أكبر الدعائم التي تقوم عليها السياسة العادلة، ولكنها تُبتلى في كثير من العصور أو المواطن بآفة تزلزل أساسها، وتقوّض بناءها، وهي المحسوبية، وما أفتك هذه الآفة بوحدة الأمة! وما أسرعها بإنزال الدولة عن المكانة المحفوفة بالمهابة إلى درك منظور إليه باستهانة!.