جاء الإسلام، فوجد العرب قد يتجاوزون في هذه الخصلة حد الاعتدال، فهذّبها، وأحاطها بحكمة حققت فيها معنى ابتغاء العزّة، وهيأتها لأن تلتقي بالعدل، وترافق الحلم، وتساير السياسة الرشيدة أينما سارت.
وأضربُ المثلَ لتجاوزهم بإباء الضيم حد الاعتدال: أن القبيلة كانت عندما تقتل القبيلة واحداً منها، قامت تدفع هذا الضيم عن ساحتها، ولا ترضى إلا أن تقتل بالواحد جماعة، وربما قامت من أجل قتل نفس واحدة حرب شعواء بين قبيلتين، تستمر أعواماً طوالاً، ولا تضع أوزارها حتى تسيل فيها أنهر من الدماء؛ كحرب البسوس المعروفة في تاريخهم، وقد قوَّمَ القرآن الكريم هذا العوج، فقال تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}[الإسراء: ٣٣].
وقال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة: ١٧٩].
وكانوا لا يبالون عند الانتقام من ظالم أن يقابلوه بأكثر أو أشد من مثل ما اعتدى به عليهم، فقال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: ١٩٤]، وقال:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}[الشورى: ٤٠].
فأنتم ترون أن القرآن الكريم قد نبه على أن الضيم الذي يحصل للقبيلة بقتل واحد منها يرتفع بالقصاص الذي هو قتل القاتل وحده، وأن الاعتداء الذي يقع على الفرد أو الجماعة يكفي في جزائه مقابلته بالمثل، فالقبيلة إذا اكتفت بقتل القاتل وحده، والمعتدى عليه إذا اقتصر في جزاء المعتدي بمثل ما اعتدى به، فقد أعطى كل منهما إباءة الضيم حقها، وليس لأحد أن يعيره بسبة احتمال الضيم إلا أن يكون خادماً للشيطان، أو جاهلاً بمواقع العدل،