وهو على علم بأن الخليفة حاضر مستمع إليه، ولكن الخليفة انصرف بعد أن قضيت الصلاة، ولم يزد على أن صار يصلي في جامع لا يخطب فيه منذر ابن سعيد.
يشهد العالِمان الرجلَ من ذوي الشأن يعمل عملاً غير صالح، وأعظمُهما همة هو الذي يسبق إلى إنكار عمله، وتذكيره بسوء عاقبته.
دخل عثمان بن إدريس، ومننر بن سعيد البلوطي على الخليفة الناصر وهو في الزهراء، فأنشد أبو عثمان أبياتاً أطرى بها الخليفة على هذا البناء، فابتهج الناصر، واهتز لهذا الإطراء، أما منذر بن سعيد، فإنه أطرق رأسه ساعة، ثم رفع رأسه وقال:
يا بانيَ الزَّهْراءِ مُسْتَغْرِقاً ... أوقاتَهُ فيها أما تُمْهِلُ
للهِ ما أحسنَها رَوْنَقاً ... لَوْ لَمْ تكُنْ زهْرَتُها تَذْبُلُ
فقال الناصر: إذا هبَّ عليها نسيم التذكار، وسقتها مدامع الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال منذر: اللهم اشهد، فإني قد بثثت ما عندي، ولم آلُ نصحاً.
وأصاب منذر فيما قال، فقد ذبلت زهرة الزهراء، وتهدمت قصورها يوم قام محمد بن هشام على بني عامر، وانتزع الملك من أيديهم، واستولى على قرطبة سنة تسع وتسعين وثلاث مئة.
وإذا كانت الدعوة من معالي الأمور، فنهايتها التي يبلغها الداعي المصلح أن يرشد إلى ما يراه حقاً، وبحذر مما يراه منكراً، غير حافل بما يحفل به ضعيف الإيمان، أو قليل الإخلاص من رضا الملأ الذين استكبروا.
رفع القرآن مكان الدعوة، ثم جعل الدعاةَ إلى حق أو إصلاح خير أمة