وثانيهما: حقيقة، وهو ما يقصده المتكلم، ويحق لك أن تسمي اللفظ من أجله حديثاً صادقاً، وهذا ما يفعله الذين أشربوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجاً أو خطراً.
وما يساق مثلاً لهذا: أن أبا بكر الصديق كان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة، وهو يريد كتم أمره، فيقول: هذا يهديني السبيل. يريد أبو بكر من السبيل: سبيل الخير والسعادة، ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون.
وما كانوا يرضون عن الحديث ذي الوجهين، إذا عمد إليه الرجل لغرض غير صالح.
قال عبد الله بن عقبة: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز، فخرجت وعليّ ثوب، فجعل الناس يقولون: هذا كساكَهُ أمير المؤمنين؟ فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي: يا بني! اتق الكذب وما أشبهه. نهاه عقبة عن إجابة السائلين بقوله: جزى الله أمير المؤمنين خيراً؛ لأنه يلقي في أذهانهم أن الخليفة هو الذي خلع عليه هذا الثوب، ولا داعي له إلى أن يجيبهم بهذه الجملة التي يتبادر منها غير الواقع سوى قصد الفخر، والفخر بإصابة حظوة عند الأمراء - ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز - لا يحسب في الأغراض المحمودة، حتى يحل للرجل أن يرتكب له حديثاً ذا وجهين.
عني الإسلام بصدق اللهجة جهد العناية، ويريد مع هذا للأمة إخاء وائتلافاً، يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويريد لجيشها الفوز على أعداء