فعبيد الله قد أحسن إلى نفسه إذ أخذها بفضيلة الإنصاف، وأحسن إلى الناس إذ علّمهم كيف يعترفون بالخطأ إذا أخطؤوا؛ ولا يتلبثون في الرجوع إلى الحق ولو عظمت مناصبهم، وعلت أقدارهم.
العناد قبيح، ويشتد هذا القبح بمقدار ظهور الحجة على الرأي الذي تحاول رده على صاحبه، فمتى كانت الحجة أظهر، كان العناد أقبح.
والإنصاف جميل، ويكون جماله أوضح وأجلى حيث يكون في حجة الرأي الصائب شيء من الخفاء، وحيث يمكنك أن تتحيز لرأيك، وتهيئ كثيراً من الأذهان لقبوله.
وقد ينقل التاريخ شذرات من حوادث المنصفين لمن خالفهم في أمر، أو المعترفين لبعض خصومهم بفضيلة، فتهتز في نفوس قرائها عاطفة احترام لمن أقر بالخطأ، أو اعترف لخصمه بخصلة حمد، وربما كان إكبارهم لمن أقر بالخطأ فوق إكبارهم لمن خالفه في الرأي فأصاب، وربما كان إكبارهم لمن شهد لخصمه بمكرمة فوق إكبارهم للشخص المشهود له بتلك المكرمة، وسبب هذا الإكبار: عظمةُ الإنصاف، وعزّة من يأخذ نفسه بها في كل حال.
قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.
وإذا لم ينصفك الرجل، فردَّ عليك الحق بالشمال واليمين، أو جحد جانباً من فضلك وهو يراه رأي العين، فلا تكن قلة إنصافه حاملة لك على أن تقابله بالعناد، فتردّ عليه حقاً، أو تجحد له فضلاً، واحترس من أن تسري لك من خصومك عدوى هذا الخلق الممقوت، فيلج في نفسك، وينشط له لسانك