وأقمت موازنة بينهم وبين كثير من لِداتهم، لم تجد في أولئك الظاهرين مزية يرجح بها وزنهم غير أنه يهمون بالأمر، فيعملون.
وإذا جعلت تتقصى أثر دولة الموحِّدين التي وضعت قدمها في فاس، وبسطَت أجنحتها على الأندلس والجزائر وتونس، وجدت أقصى هذه الدولة همة طفحت بها نفس محمد بن تومرت بعد انصرافه عن مجالس أبي حامد الغزالي، وأبي بكر الطرطوشي، وغيرهما، عائداً إلى بلده بالمغرب الأقصى.
وكم من أمة أو دولة لم ينقذها ممن يبتغي بها سوءاً سوى قوة الإرادة!.
وقد يكون فيما صنع هارون الرشيد بالبرامكة غلو في الانتقام، وسرف في القتل، ولكن تنقية مناصب الدولة لم تكن إلا بنت اليقظة والإرادة التي لا يأخذها التردد في قطع المكر السيئ من جذوره. وإذا صح ما يصفهم به بعض أهل (١) العلم من أنهم كانوا يكيدون للإسلام كيد الباطنية، كان لهارون الرشيد موقف المنتقم لملكه، أو ملك أسرته من بعده.
فإذا كان صدق العزيمة من أفضل خصال الشرف، وأجلها في الإصلاح أثراً، فجدير بأساتيذ التربية أن يعطوه من عنايتهم نصيباً وافرًا، وحقيق بالرجال القوّامين على الشؤون العامة أن يأخذوا به أنفسهم، ويقيموه شاهداً على كفايتهم؛ فإن ما بيننا وبين المدنية الفاضلة والحياة الآمنة مسافة طويلة المدى، صعبة المرتقى، إذا لم نقطعها بالعزم الصارم والعمل المتواصل، ظلمنا أنفسنا، ولم نقض حق الأجيال بعدنا، فمن واجبهم علينا أن نبني لهم صروحاً من العز شامخة، فإن لم نستطع، هيأنا لهم أسسًا ليرفعوا عليها قواعد الشرف والمنعة، فإذا هم أحرار في أوطانهم حقاً، مكرمون لنزلائهم طوعاً.
(١) هذا ما قرره القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "القواصم والعواصم".