ومن صرامة العزم: أن تفرغ فؤادك من كل داعية شأنها أن تلحق بعزمك وهنًا، أو تصرف وجهك عنه صفحًا. وتتمثل هذه الصرامة في عبد الرحمن الداخل "صقر قريش (١) "؛ إذ خرج من البحر أول قدومه على الأندلس، وأُهْدِيت له جارية بارعة الجمال، فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا شغلت عنها بما أهم به، ظلمتُها، وإن أنا اشتغلت بها عما أهم به، ظلمت همتي، فلا حاجة لي بها الآن. وردّها على صاحبها.
وكثيراً ما يجيء التردد في أمر من ناحية الشهوات والعواطف؛ كالذي يثق بما في طلب العلم من خير وشرف، ويقعده عنه حب الراحة، وإيثار ما تنزع إليه النفس من اللذات الحاضرة، والذي يقول:
إذا كنتَ ذا رأي فكُنْ ذا عزيمةٍ ... فإنَّ فسادَ الرأي أنْ تَتردَّدا
إنما ينبه على التردد الناشئ عن نحو الشهوات والعواطف، فذلك هو التردد المفسد للرأي، والموقعُ في خسر.
لقوة الإرادة أثر في انقلاب حال الأفراد والجماعات عظيم، فكم من فتى يساويه في نباهة الذهن وسائر وسائل السؤدد فتيان كثيرون، ولكنه يجد من قوة الإرادة ما لا يجدون، فيكون له شأن غير شأنهم، ويبلغ في المحامد شأوًا أبعد من شأوهم، ولو نظرت إلى كثير ممن ظهروا أكثر مما ظهر غيرهم،
(١) قال أبو جعفر المنصور لأصحابه يوماً: أخبروني عن صقر قريش، فذكروا له طائفة من الخلفاء، وهو يقول: "لا"، فقالوا: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: عبد الرحمن ابن معاوية الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًا مفردًا، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكاً بعد انقطاعه؛ لحسن تدبيره، وشدة شكيمته.