صافي البصيرة يرتاح لظهور الحق وقيامِ المصلحة العامة أكثر مما يرتاح لأن يكنز ذهباً، أو تكون له قصور فيحاء، وحدائق غناء.
وإذا أردت أن تميز فاقد الغيرة على المصالح ممن يغارون عليها، فهو الذي يجري وراء منافعه الخاصة أينما رآها أو تخيلها، يراها بجانب مصلحة عامة، فيظهر في زي الداعي إلى هذه المصلحة، ويملأ الجو نداء للتعاون عليها، حتى إذا تراءت له منفعة، لا يصل إليها إلا أن يقضي على ما ينفع الناس جميعاً، داسه بكلتا قدميه، وذهب إلى منفعته تواً لا يلوي على شيء.
قد يسلك الرجل طريق العدل محافظة على المنصب، أو رغبة في حسن الأحدوثة، ولكن الغيرة على الحق هي التي تجعل الحكم عادلاً في كل قضية، فالغيرة على الحق هي التي تقف بالقاضي في حدود الإنصاف حين ترفع إليه خصومة بين ذي سلطان وأشعث أغبر ذي طمرين، فلا يبالي أن ينصف ذا الطمرين (١)، ويقضي على ذي السلطان، وكذلك يفعل القضاة العادلون.
دُعي العلامة محمد بن بشير إلى قضاء قرطبة، فاستشار صديقًا له في قبول الولاية، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ قال: والله! ما أُبالي من مَدَحني أو ذمَّني، وما أُسَرُّ للولاية ولا أستوحش للعزل! فقال: اقبل الولاية، ولا بأس عليك. وفي سيرة ابن بشير هذا ما يشهد بصدق غيرته على الحق، ويحقق ما وصف به نفسه من أنه لا يسر للولاية، ولا يستوحش من العزل.
ومن الخطر على الحقوق والمصالح: أن يتولى أمرها محروم من الغيرة عليها، وكم من حق أهمل، ومصلحة أُميتت، والسبب في إهمال ذاك،