وللعلم بحراً طافحاً ليس له من آخر، فكل ساعة قابلة لأن تضع فيها حجراً يزداد به صرح مجدك ارتفاعاً، ويقطع به قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً، فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجد الأسمى، ولقومك السعادة العظمى، فدَعِ الراحة جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً.
وإذا رجعنا البصر في تاريخ النوافي الذين رفعوا للحكمة لواء، وجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرفوا شيئاً منها في غير درس أو بحث أو تحرير.
قدم الحافظ ابن أبي حاتم صاحب كتاب "علل الحديث" القاهرة؛ ليتلَقّى عن شيوخها مالم يكن يعلم، فقضى في مصرسبعة أشهر لم يجد هو وأصحابه من الوقت ما يهيئون فيه لطعامهم مَرَقأ، وكانوا بالنهار يطوفون على الشيوخ، وبالليل ينسخون ويقابلون.
ونقرأ في حياة الفيلسوف أبي علي ابن سينا أنه لم ينم مدة اشتغاله بالعلم ليلة كاملة، ولم يشتغل بالنهار بسوى المطالعة.
ونجد في التاريخ: أن الفيلسوف ابن رشد لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله.
لم يقض حقَّ العلم، بل لم يدرِ ما شرف العلم، ذلك الذي يطلبه لينال به رزقاً، أو ينافس فيه قريناً، حتى إذا أدرك وظيفة، أو أَنِسَ من نفسه الفوز على القرين، أمسك عنانه ثانياً، وتنحى عن الطلب جانباً.
وإنما ترفع الأوطان رأسها، وتبرز في مظاهر عزتها، بهمم أولئك الذين يقبلون على العلم بجد وثبات، ولا ينقطعون إلا أن ينقطعوا عن الحياة.
وأما اقتحام المصاعب في الطلب، فإن معالي الأمور وعرة المسالك، محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق