ولكثرة ما يصاحب الدهاء من المكر، والنزوع إلى الشر، توهم بعض العامة أنه لا يجتمع مع سلامة الضمير، والحرصِ على فعل الخير، فتراهم يعدون غفلة الرجل عما ينطوي عليه الحديث من مغامز، وما يراد به من مكايد، أثرَ صلاحه وطيبِ سريرته، وكاد بعض الكاتبين على حديث:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" يحوم حول هذا الوهم؛ إذ حمل الحديث على عدم الانخدل في الدين؛ بأن يصدق الكاذب الذي ظهر له كذبه مرة ثانية، ثم قال:"وأما الانخدل في أمور الدنيا بناء على قلة التفاته إليها، وعدم اهتمامه بها، فهو ممدوح مطلوب".
والحق أن الغفلة عن نواحي الشر، دينية أو دنيوية، لا تدخل في سلك الكمال، ولا تستدعي مدحًا، وانما الكمال في اليقظة والكياسة. والقصد من الحديث الشريف: تحذير المؤمن من أن يكون مغفّلاً، وإرشاده إلى استعمال الفطنة في شؤونه، دينية أو دنيوية. وإذا كان الحديث مسوقاً للإخبار عن حال المؤمن، فإنما يريد: المؤمن الكامل، وهو الذي يستنير بالحكمة، ويعتبر بالحوادث، فتصفو بصيرته، ويهتدي إلى غوامض الأمور، حتى يكون حذراً مما سيقع، وإذا أخذته الغفلة مرة، فنكب من ناحية، كانت نكبته من هذه الناحية هي الأولى، وهي الآخرة. ويوافق هذا قول عمر بن الخطاب:"لست بخبٍّ، والخبُّ لا يخدعني"، وأما المؤمن الذي يكون حظه من الحكمة والاعتبار بخسًا، فقد يلدغ من الجحر الواحد مرتين أو مراراً.
ولا يعارض هذا حديث:"المؤمن غرّ كريم، والفاجر خب لئيم"؛ فقد تكلم الحفّاظ في سنده، حتى ذهب بعضهم إلى أنه موضوع، وهو بقطع النظر