للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عن سنده، قد وقع لفظ الغز فيه مقابلاً للفظ الخب الذي هو الجُرْبُز؛ أي: الخدّاع، فيكون المراد من الغرارة: غفلته عن الشر؛ فإن كريم الأخلاق طيّب السريرة، لا يبحث عن الشر بحثَ من يريد التوغل في طرقه، والخوض في غماره، وهو مع كونه لا يبحث عن هذه الطرق بحثَ المولع بها، يأخذ بسنّة الاحتراس، فلا ينخدع لخب يزخرف له القول مداهنة، أو ينصب في طريقة حباله، فغفلة الرجل عن وسائل الشر لانصرافه إلى الخير بشراشر (١) لا تنقص من كياسته في تدبير وسائل الخير، أو الاحتراز عما يهيأ له أو لقومه من الشر، فلا يصح أن يكون الإيمان - الذي هو أساس استنارة الفكر - سببَ الانخداع لتمويه مبطل، أو مخاتلة ذي مأرب.

نجد في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يرشدنا إلى أن السياسة الإسلامية لا ينهض بها المستقيم إلا أن يكون أريباً، ولا الأريب إلا أن يكون مستقيماً.

فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كان محفوفًا به من رعاية الله وتأييده - لم يترك أمر السياسة الحربية أو المدنية دون أن يجريه على سنّة التدبير والاحتراس من أمور يتبعها في العادة عواقبُ سيئة، فما نقرؤه في سيرته الزاهرة: أنه كان إذا قصد السفر لحرب قوم، أخذ يسأل عن ناحية قوم آخرين، حتى يظن السامع أنه ينوي السفر إلى الناحية التي يسأل عنها. ونقرأ فيها: أنه كتب لأمير سرية كتاباً وقال له: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلما بلغ ذلك المكان، قرأه على الناس، وفيه ذكر الناحية التي أمرهم بالتوجه إليها.

ومن مثل هذا أخذ يحيى بن أكثم قوله في حديث مع المأمون: "لا يستقيم كتمان شيء إلا بإذاعة غيره".


(١) الشراشر: النفس.