ومن بديع سياسته - عليه الصلاة والسلام -: صلحُ الحديبية؛ فقد خفي على بعض كبار الصحابة حكمته، فلم يرتح له، ولكنه أتى بخير كثيرة إذ كان توطئة لفتح مكة دون أن تراق فيه دماء طاهرة، أو تقصم فيه ظهور انحنت بعد الفتح راكعة لله، وخرج منها رجال جاهدوا في الحق بحماسة وإخلاص. وكان - صلوات الله عليه - مع ما يجده في الناس من حسن الطاعة والتسليم، قد يستحسن الأمر، ويدعيه. حذراً من أن يلاقيه بعضهم بإنكار.
فانظروا إلى ما جاء في الصحيح من أنه - عليه الصلاة والسلام - استحسن نقض البيت وبناءه على أساس إبراهيم، وإنما تركه مخافة أن تنكره قلوب من كانوا حديثي عهد بالجاهلية من قريش، وإنما يراعي - عليه الصلاة والسلام - إنكار الناس فيما لم ينزل به وحي، ولم تقتض حاله أن يكون شرعه نافذاً.
وإذا قال ابن خلدون في الحديث عن العرب:"إنهم أبعد الأمم عن السياسة"، فإنما يريد: العربَ قبل أن يستضيئوا بحكمة الإسلام، أما بعد أن نزل القرآن، وشاهدوا سيرة أحكم الخليقة - صلوات الله عليه -، فقد كان نصيبهم من البراعة في السياسة فوق كل نصيب.
نقرأ في تاريخ فتح الفرس: أن سعد بن أبي وقاص أرسل المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل حتى جلس معه على سريره، فوثب إليه أتباع رستم، وأنزلوه من السرير، فقال المغيرة:"إنا - معشر العرب - لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم: أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، اليوم علمت أنكم مغلوبون، وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول".
قصد المغيرة بما صنع وما قال: تعليمَ القوم المساواة التي جاء بها