يحتاج الولاة إلى الدهاء في سياسة الجماعات واستبانة الحقوق، ويحتاج إليه العلماء في الدعوة إلى الخير، فقد تكون مواجهة الرجل بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر لا تأتي بفائدة، فيعدل الداعي إلى طريق يكون له الأثر المقصود من الدعوة، وهو السمع والامتثال.
عزم المعتصم على قتل محمد بن الجهم البرمكي؛ لجولان يده في مال الدولة، فرأى القاضي أحمد بن داود هذا التصميم، وعرف أن الموعظة أو الشفاعة لا تحول دون هذا القتل، فسلك لإنقاذ محمد بن الجهم طريقاً آخر، هو أن قال للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته؟ قال: ومن يحول بيني وبينه! قال: يأبى الله تعالى ذلك، ويأباه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث إذا قتلته حتى تقيم البينة على ما فعله، وأمرُه باستخراج ما اختانه وهو حي أقربُ عليك، فرجع المعتصم عن عزمه، وخلص محمد بن الجهم من القتل.
وينتفع الرجل من دهائه عند لقاء الطبقات المختلفة، يزن عقول من يلاقونه، ويحسُّ ما تكن صدورهم، وتنزع إليه نفُوسهم، فيصاحب الناس، ويشهد مجالسهم وهو على بصيرة مما وراء ألسنتهم من عقول وسرائر وعواطف، فيتيسر له أن يسايرهم، إلا أن ينحرفوا عن الرشد، ويتحامى ما يؤلمهم إلا أن يتألموا من صوت الحق.
ومراعاة عقول الناس وطباعهم ونزعاتهم فيما لا يقعد حقاً، ولا يقيم باطلاً، مظهر من مظاهر الإنسانية المهذبة، ومتى كان الدهاء - أعني: جودة النظر في سياسة الأمور، وتقدير وسائل الخير - عائداً إلى الألمعية، وهي في أصلها موهبة إلهية، فإن التدبير في سير أعاظم الرجال، والنظرَ في مجاري