على ما كان لعليّ من المكانة في العلم والبيان، والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذل النفس في الجهاد، وبلوغه في تقوى القلب أبعد غاية.
هذه الوسيلة قررها الإسلام في سياسة الدعوة إليه، فأذن في صرف جانب من الزكاة لأناس قالوا: أسلمنا؛ تأليفًا لقلوبهم، واستدعاء لاطمئنان عقيدتهم؛ كما قال تعالى في آية مصارف الزكاة:{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}[التوبة: ٦٠].
لا يعتمد رئيس القوم على القوة يستطيع أن يخمد بها كل فتنة، ويرى أنه في غير حاجة إلى أن ينظر في منابت الفتن بدهاء، فللدهاء مواضع يظهر فيها فضله على القوة. منها: دفع الخطر الذي يتراءى شبحه من بعيدة بحيث لا يشعر به إلا البصير بما وراء الخير من شرور؛ فقد يكون استعمال القوة في الشر المتواري موضع إنكار، أو مثار فتنة، أما الدهاء، فيرده، والنفوس مطمئنة، والفتن نائمة.
ويحتاج الحكم إلى الدهاء في استبانة الحقوق؛ حيث ترفع إليه الدعاوى مجردة من كل بينة، وفي مثل هذه الدعاوى يظهر مبلغ ذكاء القاضي؛ كما يظهر فضله في نقد البينات، وتمييز زائفها من صحيحها.
ومن دهاء المنصور بن أبي عامر: أن أحد التجار قدم قرطبة، ومعه كيس ياقوت نفيس، فتجرد ليسبح في البحر، وترك الكيس على ثيابه، وكان أحمر، فاختطفته حدأة في مخالبها، وتغلغلت به في البساتين، فأبلغ أمره إلى ابن أبي عامر، فجعل يستدعي أصحاب البساتين، ويسأل العاملين فيها عمن ظهر عليه تغيير حال من بؤس إلى سعة، حتى ذكر له شخص ظهر عليه من اليسر ما لم يعرف به من قبل، فاستدعاه، وفاجأه بقوله: أحضر الكيس الأحمر! فَتَمَلَّكه الرعب، وجاء به وقد نقص منه ما عفا له عنه صاحبه.