ومتى أكثر في الشعب أمثال هؤلاء الذين لا يميزون في محاكاتهم السيئة من الحسنة، فقد الشعب هدايته الدينية، وتجردَ من مميزاته القومية، ولا يفلح شعب نكث يده من الدين الحق، ولا يعتز شعب نظر إلى قوميته بازدراء.
وقد تعرض ابن خلدون في "مقدمته" لهذه المحاكاة من حيث إنها طبيعة اجتماعية، فقال:"إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه، ونحلته، وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك: أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها، وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب"، ثم قال:"ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها، وأشكالها، بل هو في سائر أحواله"، ثم قال:"وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زيُّ الحامية وجندِ السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم، حتى إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغالب عليها، يسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير؛ كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله".
وهذا الذي قرره ابن خلدون طبيعة من طبائع الأمم الضعيفة حيث توجد بجوار أمة قوية، ولكنها طبيعة عرفت علتها، فيمكن لزعماء الأمة الضعيفة أن يعالجوا العلة، فتسْلم الأمة من هذه الطبيعة، ويمكنها أن تتحفظ من الاقتداء بالغالب، إلا فيما كان من وسائل الرقي والسيادة.