وإذا قلنا: إن الاجتماع خير من العزلة، لا نقصد إلى أن يصرف الإنسان أوقاته في التردد على البيوت، وغشيان المجالس، والتعرض للقاء كل من يجري اسمه على الألسنة، كما يفعل بعض من لم يقدروا الوقت حق قدره، فيبذّرونه تبذيرًا، فإنه لا بد للإنسان من أوقات يخلو فيها بنفسه، ليؤدي واجباً، أو يتقرب إلى الله بنفل، أو يحفظ علماً، أو يحقق مسألة، وذلك معنى قول عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه -: "خذوا حظكم من العزلة".
ونقرأ في تراجم كثير من أهل العلم: أنهم كانوا يجعلون من اليوم والليلة نصيباً للتقرب من الخالق بصلوات، أو ذكر، أو تلاوة قرآن، ويقبلون في جانب عظيم منها على العلم تأليفاً ودراسة، ويصرفون طائفة من الوقت في قضاء حقوق اجتماعية.
فإن قال الراغب في العزلة: أريد أن أقضي أوقاتي في عبادة، قلنا: في حضور مجالس العلم أو مستفيدًا عبادةٌ، وفي عيادة المريض وفي زيارة الإخوان تأكيداً لمودتهم، أو تهنئة بنعمة، أو تعزية على مصيبة عبادة، وفي إرشاد الناس إلى الخير عبادة، وفي مدّ يد المعونة على ما يسد حاجتهم، أو تقوى به شوكتهم عبادة.
وليس ببعيد أن يكون ما يُعزى إلى بعض أهل العلم من إيثار العزلة مراداً به صرف معظم الوقت في علم أو عبادة خالصة، حتى إذا أحس واجباً يدعوه إلى الاجتماع، أجاب داعيه في نشاط، ووضع يده في أيدي العاملين بإخلاص. وقد يخطر بالبال: أن الشر في هذا العصر أصبح مستطيراً، وأن للضلال والفساد دعاة لا يملّون، وجنوداً لا يتقهقرون، فمن فئة غلبت عليهم أهواؤهم، فاتخذوا اسم الدين وسيلة إلى ما تهوى أنفسهم، ومن قوم نبذوا الدين، وخرجوا