غير الطيبة، إنما يغني في دعوتهم جماعة من زعماء الأمة لا يحوم على ألسنتهم مَلق، ولا يشترون متاع هذه الحياة بكتمان ما أوتوا من حكمة، فيوقظونهم من غرورهم، وُيرونهم أن العزَّة للمؤمنين. أما صوت الواحد ونحوه، فإنما يلقى منهم آذان الصمّ الذين لا يفقهون.
وإنما تفيد كثرة الدعاة عند اتحادهم وقصدهم إلى إقامة المصالح، ونصرة الحقيقة في نفسها، وبذلك أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى، ومُعاذَ بن جبل حين بعثهما إلى اليمن: قال لهما: "يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرّا، وتطاوعا". وُيشعر بهذا الشرط التعبير عن الدعاة باسم "الأمة" دون "القوم " في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}[آل عمران: ١٠٤].
قال القفّال: الأمة: القوم المجتمعون على الشيء الواحد، يقتدي بعضهم ببعض، مأخوذ من الائتمام. وهو الوجه في إيثار التعبير به أيضاً في آية: وَ {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)} [الأعراف: ١٥٩]، فإن لفظ:"القوم" يطلق في اللسان على عدد أقلّ مما يطلق عليه لفظ: "الأمة"، وهو من هاته الجهة أنسب عادة بدعاة الإصلاح، لقلة عددهم، ولفظ:"الأمة" أليق بسائر الأفراد؛ لكثرتهم؛ ولكنه اختير للدعاة اسم "الأمة"؛ لأن إشعاره بمعنى اتحادهم وتآلفهم أقوى مما يشعر به لفظ:"القوم".
فالقرآن يرشد إلى أن يكون دعاة الإصلاح جماعة، وأن يكون أدب هذه الجماعة الاتحاد والتعاضد. ومن الواجب صرف الهمة إلى مشروع الدعوة حتى تقام على نظام يحفظ الحقائق والمصالح، أما بقاؤها مطروحة إلى داعية الأفراد، فقد يفضي بها إلى ضياع، وطالما جعلها تفقد حيث يجب أن تكون.