هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}[الجمعة: ١١].
واعتبروا بعد هذا في قوله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: ٣]، وقوله تعالى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}[المائدة: ٧٩]، فالتعبير بصيغة الفاعل في قوله:{وَتَوَاصَوْا}، وقوله:{لَا يَتَنَاهَوْنَ} يدلُّ على تبادل الوصاية، والتناوب في النهي عن المنكر. ويشير إلى أن الشخص الذي يُوصي آخر بحق، أو ينهاه عن منكر، لا يعلو به قدره عن طاعة ذلك الموصَى أو المنهي إذا دعاه إلى صالح، أو إلى النزوع عن باطل.
ويجري على هذا الباب: أن الفقهاء يطلقون للخصوم أن يخاطبوا القاضي بنحو: "اتق الله"، أو "اذكر الله"، ولم يعدّوه من اللمز بقلة التقوى. ولو أجري على مثل هذا حكم الجفاء أو الطعن الذي يستحق به الخصم الأدب، لاتخذه الحاكم المستبد ذريعة إلى كفّ الرعية، وسدّ أفواههم عن إحضاره النصيحة، ودعوته إلى القيام بصالح الأعمال.
يروى أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب في كلام دار بينهما:"اتَّقِ الله"، فأنكر عليه بعض الحاضرين، وقال له: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فقال له عمر: دعه فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها.
إنما يعتمد في شرط المصلح: أن يكون على بيّنة من حكم ما يأمر به، أو ينهى عنه، تلك المزية المومأ إليها بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل: ١٢٥]، وقوله تعالى:{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف: ١٠٨].