فمنهم: من يشعر بوجه الحق، فيستولي عليه نظراً وعلماً، وفي استطاعته أن ينصب عليه الدلائل الصريحة؛ ليهتدي بها المقتدون على أثره. ولا تنبعث أمة من مرقدها، وتمتطي غارب عزّها إلا إذا نبتت فيها نابتة من أهل هاته الطبقة.
ومنهم: من لم يبلغ في قوة الشعر وسرعة المخاطر أن ينتبه إلى جهة الحق من تلقاء نفسه، ولو ترك بحاله، وخُلي سبيله، لتمادى في جهالته، واستمر على غوايته. ولكنه يسمع الكلمة تشير إلى موضع الحق، فيرمي ببصره إليه، ويأخذ في نصب الدلائل الموصلة إلى معرفته.
وبعض الناس لا ينتبه للحق بنفسه، ولا يتمكن من إقامة الشواهد عليه لو أنبأته بناحيته، فيفتقر إلى أن تأخذ بيده، وتقوده بما تلقيه من الأدلة حتى يراه رأي العين. إلا أنه انطوى على فطرة سليمة، ونظر صحيح، فلا يمكنك بعد أن يفقه الرشد، ويستقرَّ على علم أن تنتزعه منه، وتغرس في مكانه جهلًا أو ضلالاً.
وفي الناس من يلقي زمامه إلى أيدي الدعاة، ويتلقى أقوالهم بالطاعة، دون أن يكلفهم الدليل على صحة قضية، أو الوجه في بيان حسن عمل، وإنما يعتمد في الاقتداء بهم على ما اشتهروا به من نحو العلم والاستقامة وكثرة المريدين من أولي الأحلام الراجحة. وعلامة هذه الطبقة: أن يرجع مرشدهم عما بثه من علم، أو ندب له من عمل، فينقلبوا معه إلى تقليد مذهبه الجديد.
ولا يختص بواجب الدعوة أهل الطبقة العالية وما يقرب منها؛ فإن من الحق ما يكون واضحاً بنفسه، أو بدليل متوافر؛ بحيث لا يتأتَّى فيه نزاع،