ذهل كثير من الخطباء عن هذه الحكمة، فالتزموا لكل شهر خطبًا معينة يسردونها سردًا، ولا ينظرون فيها إلى ما يقتضيه حال الناس في التعليم أو التذكير. وبصنيعهم هذا خرجوا بالخطب عن أن تكون طريق الدعوة إلى إصلاح.
ويزيد في حسن الخطبة ونفعها: أن تكون من إنشاء الداعي، ويكون نفعها أبلغ إذا استطاع أن يرتجلها ارتجالاً؛ فإن الأقوال التي ينزع معناها بنفسه، ويسبك عباراتها بطبعه؛ تكون أبلغ أثراً في نفوس السامعين، وأملك لعواطفهم من أقوال صنعت من قبل، فأخذ يحكي ألفاظها حرفاً فحرفًا. والأقوال المنشأة حال إلقائها تصدر عن انفعال نفسي، وقوة إرادة، فتنفذ في نفس السامع بألفاظ جديدة، وهيئة غير مصطنعة. ويمكنك أن تعرف مقدار انفعال الخطيب وقوة إرادته مما تشاهده في هيئته الظاهرة من تبسم أو استعبار، وعبوسة جبين أو طلاقته، ورفع صوت أو خفض، إلى ما يماثل هذا من الآثار التي لا تشاهدها على ظاهر الناقل أو المترجم لكلام غيره، إلا أن يتكلّفها.
وتختلف طرق الدعوة - من حيث طرز الكلام، ومبلغ الاستدلال- إلى ما يفيد يقينًا لا ريب فيه، وإلى ما يفيد ظنًا غالباً. قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: ١٢٥]، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد من الحكمة: الحجة المفيدة لليقين، ومن الموعظة الحسنة: الأمارات الظنية، والدلائل الاقناعية، ومن المجادلة بالتي هي أحسن: الدليل المؤلف من مقدمات مسلمة عند المنازع. وفصَّل الإمام الغزالي في كتاب "الاقتصاد" هذه الأنواع من الحجج، وقسم المخاطبين