إلى ثلاث طبقات، وعيّن لكل طبقة نوعاً، قال: والبرهان يخاطب به الأذكياء، والخطابة يخاطب بها العوام؛ لأنهم لا يفهمون البرهان، والجدل لا يخاطب به إلا المعاندون في الاعتقادة لأنهم لا يرجعون عن مذهبهم بالموعظة.
ولم يرتضِ الشيخ ابن تيمية تفسير الآية بهذه الطرق المنطقية، وقال في رسالة "معراج الوصول": بل الحكمة هي معرفة الحق، والعمل به؛ فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة، فيبين لها الحق علماً وعملًا، فتبلغه وتعمل به. وآخرون يعترفون بالحق، لكن لهم أهواء تصدهم عن إتباعه، فهؤلاء يُدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق، والترهيب من الباطل. والدعوة بهذيْن الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله، فإنه يجادل بالتي هي أحسن. ثم قال: والقرآن لا يَحتج في مجادلته بمقدمة لمجرّد تسليم الخصم لها - كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم -، بل بالقضايا والمقدّمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية. وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها، ذكر الدليلَ على صحتها.
والواقع أن القرآن لا يحتجُّ إلا بقاطع؛ فإن دعوته للناس كافة، وهدايته للعقول، كبيرة كانت أو صغيرة. ومن حكمته- وهو يدعو البشر قاطبة- أن يقيم على الحق أدلة لا تحوم عليها ريبة، ولا يستطيع لها كبار الفلاسفة نقضًا. أما غيره من الدعاة الذين قد يقصدون لإصلاح طائفة معينة، فلا جناح عليهم أن يسلكوا في الاستدلال على الحق ما يجعله مألوفاً للمخاطبين، وإن لم يبلغ في قوة الدلالة أن يقع من طلاب اليقين موقع التسليم.