للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: ١٨، ١٩]. ويندرج في سلك هذا: صرفُ الإنكار إلى غير معين؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - في النكير على أهل بَرِيرة، وقد عرفهم بأعيانهم: "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ ". ومن هذا القبيل قوله - عليه السلام -: "ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله! إني لأعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية"، وشكا إليه - صلوات الله عليه- رجل من مُعاذ بن جبل حين كان يطيل بهم الصلاة، فاشتد غضبه، ولكنه احتفظ بعادته الجميلة، فلم يخاطب معاذًا على التعيين، بل عمَّم في الموعظة، وقال: "أيها الناس! إنكم منفرون، فمن صلى بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم المريضَ والضعيف وذا الحاجة".

ومن أمثلة هذا الأدب: أن يوجه الداعي الإنكار إلى نفسه، وهو يعني السامع؛ كقوله تعالى فيما يقصه عن رجل يدعو إلى الإيمان بالله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: ٢٢]، فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئاً، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً للخلوص في النصيحة، حيث اختار لهم ما يختار لنفسه.

ويضاهي هذا الأدب: أن يضع نفسه بمنزلة السائل المتطلب للحقيقة، ويقيم الحجة في معرض الاسترشاد، حتى تعلق بأذهان المخاطبين، قبل أن يشعروا بغرضه، فينصرفوا بقلوبهم عن الإصغاء إليه. ومثل هذا: ما فعل إبراهيم - عليه السلام - في محاجَّة قومه المشار إليها بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (٧٠) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (٧١) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: ٧٠ - ٧٣].