وقال تعالى في تعليم رسوله الأكرم كيف يدعو إلى الحق:{قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سبأ: ٢٤]. فإذا لم يظهر الداعي أنه على بينة من أمره، وألقى الكلام في هيئة المتردّد الذي لا يتيقن أن الهدى في جانبه، كان كالمستعين برأي المخاطب في البث عما هو حقّ ورشد، فتنحلّ في قلب هذا المخاطب عقدة التعصب. وريما طمع في الداعي، وأخذه إلى مذهبه، فيقبل على النظر بجدّ حتى يمرّ به مغالبة الداعي على الآيات البيّنات، فإذا هو ينظر إلى الحق: فإما إيماناً بعد، وإما عناداً.
ومن لطف الدعوة: أن تنادي المدعوَّ بلقبه الشريف، وتنعته بوصف شأنه أن يبعث صاحبه على قبول الموعظة، أو الإنصاف في المجادلة. وهذا الأدب مقتبس من مثل قوله تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ}[آل عمران: ٦٥]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}[البقرة: ١٠٤]، {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: ١٧٩]، {يَاأُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر: ٢]، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - هرقل في كتاب دعوته إلى الإسلام بعظيم الروم. ويتأكد مثل هذا الأدب في موعظة الصغير للكبير، والمرؤوس لرئيسه، ولاسيما حيث تُضرب على الدولة طبائع الاستبداد.
وقد يفتتح الداعي للرؤساء خطابه بكلمة:"ائذن لي"، قال ابن شريح لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة:"ائذن في- أيها الأمير- أحدّثك قولاً"، وروى له قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن مكة حرّمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا" إلخ الحديث. فقال له عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك. فقال له ابن شريح: إني كنتُ شاهداً، وكنت غائبًا، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ شاهدُنا غائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك.